الاجترار الوسواسي (Obsessive Ruminations)
الاجترار الوسواسي (Obsessive Ruminations)
الاجترار الوسواسي هو الوقوع في شراك مجموعة من الأفكار متعلقة بموضوع معين بحيثُ لا يستطيع المريضُ التوقف عنها وعادةً ما يكونُ الموضوعُ نفسه من المواضيع التي لا معنى للتفكير فيها مثل التفكير فيما حدثَ خلال اليوم من أقوالٍ وأفعالٍ من الشخص ومِن مَن قابلهم وكأنما يسترجعُ الشخص الأحداثَ مهمةً وغيرَ مهمةٍ ودون أن يستطيعَ التوقفَ عن ذلك....، وعادةً ما يشكُّ في ذاكرته ويحسُّ أنهُ نسيَ ومادام قد نسيَ فمن الممكن أن تكونَ أشياءٌ خطيرةٌ قد حدثتْ وهكذا يحاول التذكر وإعادة التذكر ثم يفند الأدلة على ما حدث وما لم يحدث وهكذا، أو قد يكونُ موضوع الاجترار الوسواسي من المواضيع المحرم شرعًا بالنسبة للشخص أن يخوضَ فيها مثلَ منْ خلقَ الله؟ أو كيفَ يستطيعُ الله أن يراقبَ كل هذا الكم من البشر إلى آخره.
أودُّ بدايةً أن أبينَ المعنى اللغوي لكلمة اجترار فالكلمةُ الإنجليزية Ruminate تعبرُ في الأصل عن سلوك استرجاع الحيوان لما في بطنه من غذاء ليعيد مضغهُ والحيوانات التي تتصف بهذه الصفة هي حيوانات مجترة، كما يضيفُ قاموس أوكسوفورد(الإنجليزي–إنجليزي) (Hornby,1979) معنى آخرَ هو استرجاع الأفكار حول موضوع معينٍ، ويضيفُ قاموسُ الطريقة الجديدة (إنجليزيٌّ-إنجليزي) (West& Endicott,1976) كلمة: يفكر كأحد المعاني لهذه الكلمة وأما صاحبُ المورد(منير البعلبكي،2001) فيترجمها يتأمل أو يفكر في أو يجتر، وتوجدُ الكلمةُ في المعاجم اللغوية العربية تحتَ مادةِ "جَرَّ" ففي مختار الصحاح (محمود خاطر): "اجتَرَّهُ أي جَرَّهُ، واجْتَرَّ البعيرُ منَ الجِرَّةِ وكلُّ ذي كَرِشٍ يجْتَر".
وفي القاموس المحيط (مجد الدين الفيروزَباذي,1938):"الجرُّ هو الجذبُ كالاجترار والاجْدِرارِ والاسْتِجْرارِ والتَّجْريرِ... والجِرَّةُ بالكسْرِ هَيْئَةُ الجَرِّ وما يفيضُ بهِ البعيرُ فيأكلهُ ثانيةً" ولم يضف المعجمُ الوسيطُ (مجمع اللغة العربية,1985) جديدًا مهما على هذا المعنى فأنا إذن لم أجد في المعاجم اللغوية العربية التي بينَ يديَّ ما يشيرُ إلى علاقة هذه الكلمة بالتفكير، لكنني أرى هذه الترجمةَ مناسبةً للمعنى النفسي للظاهرة، والذي أريد الإشارةَ إليه هنا هوَ أن المعاجم اللغوية العربية تحتاجُ إلى تطويرٍ مثلما يحدثُ في المعاجم الإنجليزية التي يضيفونَ فيها كل استعمالٍ جديدٍ للكلمات أولاً بأول (وائل أبو هندي، 2003).
ونريدُ في هذا المقال أن نشرح الاجترار الذهني وعلاقتهُ بالوسواس القهري فهو يحدثُ في نسبة 51% من حالات الوسواس القهري (Okasha etal ,1991)، ولعلَّ أبسطَ تعريف للاجترار هو أنه:"تفكيرٌ واعٍ موجهٌ ناحيةَ شيءٍ معينٍ لمدةٍ طويلةٍ"، وهذا التعريفُ في الحقيقة يوسعُ المفهوم بحيثُ يجعلهُ شاملاً للعديد من أنواع التفكير حتى الطبيعيَّ منها فمثلاً التفكير في حل مشكلةٍ ما Problem Solving واقعٌ ضمنَ هذا التعريف بالضبط كما تقعُ أفكارُ مريض الاكتئاب الجسيم الذي يجترُّ أخطاءهُ وعيوبهُ وسوءَ حاله وكذلك أفكارُ مريض الوسواس القهري الذي يفكرُ ويفكرُ في وجود إلهٍ من عدمه أو في احتمالاتِ أن يصابَ بالسرطان لأنهُ رأى خالتهُ المصابةَ بسرطان الثدي وسلم عليها وهوَ لا يدري! أو في تفاصيل ما حدثَ طوالَ اليوم قبل أن ينام أو في تفاصيل ما كانَ يحدثُ لهُ عندما كان يلعبُ مع أبناء عمه وهو طفلٌ (أي منذُ عشرين عامًا مثلاً!) وكيفَ أنهم كانوا يسبونهُ ولا يستطيعُ هوَ الرد عليهم! كلُّ هذه المواضيعُ يمكنُ أن نعتبرها تفكيرًا واعيًا موجهًا ناحيةَ شيءٍ معينٍ لمدةٍ طويلة!
فهلْ يمكنُ أن نقولَ أن هناكَ اجترارًا إراديًّا وهوَ طبيعيٌّ إلى حد كبير، وأيضًا هناكَ اجترارٌ لا إرادي أي رغمًا عن الشخص وهوَ خبرةٌ غير طبيعيةٍ؟ فأما الاجترار الإراديُّ فيمكنُ أن يكونَ طبيعيا مادام بوعي الشخص وإرادته ويستطيعُ وقفهُ متى شاءَ، وأما الاجترار اللاإراديُّ فهوَ بالفعل خبرةٌ تدلُّ على وجودٍ اضطرابٍ نفسي يحتاجُ إلى علاج فقد يحدثُ في الوسواس القهري وقد يحدثُ في اضطراب الكرب التالي للرضح Posttraumatic Stress Disorder وقد يحدثُ في الحالات الشديدة من مرضى الاكتئاب الجسيم ذوي الميول الانتحارية وغير ذلك في الكثير من الاضطرابات النفسية، لكنَّ ليسَ كلُّ اجترارٍ إراديٍّ طبيعيا ولا يحتاجُ إلى تعديل معرفي، فمثلاً توجدُ الآنَ دراساتٌ عديدةٌ (Nolen-Hoeksema, 1991) و(Alloy & Robinson , 2000) على مرضى الاكتئاب الذين يستجيبونَ استجابةً غير كاملة لعلاجات الاكتئاب المختلفة، أو الذين لا يستجيبونَ أصلاً للعلاجات، وتؤكدُ هذه الدراساتُ أن الاجترارات الاكتئابية Depressive Ruminations هيَ السبب حيثُ اعتادَ مثلُ هؤلاء الأشخاص أن يسترجعوا ويجتروا أفكارهم الاكتئابية ومدى تأثير نوبات اكتئابهم على حياتهم وهكذا، وهم يفعلونَ ذلك بوعيٍ منهم أي بإرادتهم إلى حدٍّ كبير.
ولعل في تأمل مشكلة: أحلام اليقظة الاكتئابية ؟؟؟ ومشكلة: الدواء لا يؤدى إلى تحسن الاكتئاب!! ، ومتابعتها على استشارات مجانين ما يبين بعضًا من ذلك، وللتفكير الاجتراري علاقةٌ باضطراب الاكتئاب الجسيم وعادةً ما تأخذُ الأفكار التسلطيةُ التي تظهرُ ضمنَ أعراض بعض مرضى الاكتئاب الجسيم هذا الشكل الاجتراري، كما أن هناكَ دراساتٍ(Davis et al.,1995)و(Kasimatis & Wells, 1995) تشيرُ إلى وجودِ صفة النزوع إلى التفكير المضاد للواقع Counterfactual Thinking في الكثيرين من أولئك المعرضين للتفكير الاجتراري، فهم يفكرون ويتساءلونَ عن أشياءَ وقعت بالفعل وهم يعرفونَ أنها وقعت لكنهم يفكرونَ على اعتبار أنهُ من المحتمل أنها لم تقع مثلاً!، ولنتأمل التاريخ المرضيَّ للحالة التالية أيضا، لنعرفَ أو نتعرفَ على أحد أشكال الاجترار الوسواسي:
((كانَ عامرُ طالبًا في السنة الثانية بكلية العلوم وَقدْ دخل على الطبيب النفسي وهوَ في منتهى الإعياء وَقالَ لهُ "مخي يا دكتور لا يتوقفُ لا ليلاً ولا نهارًا عن التفكير! ولا أكادُ أنتهي من لاشيءَ حتى أبدأ في لاشيء آخر! أنا مجنونٌ أليسَ كذلك؟ لا بدَّ من التسليم بذلك لابد! وليس هناك علاج لهذا النوع من الجنون لقد قال لي طبيب المخ والأعصاب أنني أنا المسئول وَفعلاً أنا الذي أفكر في أشياء لا معنى لها وَلا أستطيعُ منع نفسي من ذلك نعم حتى الدواء الذي كتبه لي لم يفعل شيئًا ولن يفعلَ شيئًا ما لم أساعد نفسي وأنا لا أستطيعُ مساعدة نفسي لأنني مجنون "وطلب منه الطبيب النفسي أن يهدَأ وأن يحكي الحكاية من أولها وكل شيءٍ بإذن الله سيكونُ على ما يرام، فابتسمَ عامرُ ابتسامة مرَّةً فيها شيءٌ من عدم الثقة!، وقالَ نعم سوفَ أحكي ويا ليتني أحضرتُ معي جهاز التسجيل لكي لا أتعذب أنا يا دكتور منذُ أكثر من شهرين وأنا أقضي كل الوقت في استرجاع ما حدثَ لي في كل مكان وما قلته للناس وما قالوه لي ولا أستطيع منع نفسي من ذلك بالضبط كأنني أسترجعُ شريطَ فيديو ويحدثُ ذلك أثناء المحاضرات وفي الطريق وعندما أجلس أمام الكتاب ويحسبني أهلي أذاكر!! ساعاتٌ طويلة تضيعُ ولا أستطيعُ التوقف! ودائما ما أشك فيما قلتهُ هل قلتُ كذا أم كذا وهل كانَ ذلك ردا على ما قيل لي أم أنني قلتهُ من تلقاء نفسي! وهل كان ما قلته هو المناسب والصحيح وكم يعذبني أنني لا أتذكر دائما كل شيء وأصبحتُ أحمل معي جهاز التسجيل في كثير من المواقف لكي يكون بمثابة الذاكرة،،..... لكنني منذُ أسبوعٍ أصبحتُ أشكُّ في أن جهاز التسجيل لا يسجلُ كل ما يقال ثم أنه لا يسجل تعبيرات الوجوه ولا يستطيع التقاط أفكار الناس التي تجول في خواطرهم وأنا أتحدثُ معهم، ثم ما فائدة ذلك كله لا شيء!! وما أهميته وما سبب اضطراري لفعله لا أدري! أنا لم أعد أستطيع المذاكرة وهاهي امتحاناتي بعد شهر وأنا لم أذاكر! تصور أن كل كلمة أقولها الآن لك وكل كلمة ستقولها أنت لي ستأخذ مني الكثير من المجهود لأثبتَ أنني قلتها ولم أقل غيرها وأنها هي ما كان يجبُ أن يقال وكلامك أنت أيضا لابدَّ أن أستعيدَهُ وأكررهُ لكي أتأكد منهُ هلْ هناكَ حالات مثلي يا دكتور؟؟ بالتأكيد لا يوجد!لا يوجد!"
ذهبتُ إلى طبيب المخ والأعصاب عشرة مرات وطلب مني أشعة مقطعية على المخ وكنت أعتقدُ أنها ستوضح سبب هذا النشاط الزائد في المخ أليس ما أعاني منهُ نشاطًا زائدًا في المخ؟ هكذا قال لي الطبيب ولكن أي نشاط إنه نشاط لا يفيد ولم يكنْ في الأشعة شيءٌ غيرُ طبيعي ولكنْ كيفَ لا أدري أنا يا دكتور لا أستطيعُ النومَ دونَ استعمال المهدِّئ الذي وصفه لي طبيب المخ والأعصاب ولا أستطيع الحياة نائمًا وأخافُ أن أتحولَ إلى مدمن!
هل المدمنُ أفضلُ حالاً من المجنون ربما "وَطلبَ الطبيبُ النفسيُّ منهُ الهدوءَ مَرَّةً أخرى وَسألهُ عنْ حياته قبل الشهرين وعن عاداته في النظافة والترتيب فظهرَ أنه اعتاد منذُ دخوله الجامعة أي منذ أكثر من سنةٍ أن يستغرقَ ساعتين على الأقل في الصباح لكي يكونَ مُسْتَعِـدًّا للخروج من البيتِ فهوَ يتوضَّأُ وَيصلي ويحلقُ ذقنهُ وَيصففُ شعرَهُ وَيرتدي ملابسهُ وكلُّ ذلكَ لابدَّ أن يُفْعَـلَ بدقَّـةٍ لكي لا يحدثَ خطاٌ! وَهوَ يعرفُ أن أحدًا لا يفعلُ ذلكَ لكنه حاول مراتٍ عديدةٍ ألا يفعلَ ذلك ولم يستطعْ لأن كمًّا كبيرًا من القلق والتوتر يعذبهُ إذا خرجَ من بيته وهو غيرُ متأكدٍ من أن مظهرَهُ على ما يرام! لكنَّ استغراق ساعتين كل صباح يكفي لتجنيبه القلق والشك في انضباط هيئته وملابسه! ثمَّ اتضحَ بعد ذلك أيضاً أنه يأكلُ وحيدًا وليس مع أفراد عائلته، وبسؤاله عن سبب ذلك اتضح أنه يشعرُ بالقرفِ لأنهم يتكلمون أثناءَ الأكل ولأنَّ بعض الحروف عندما تنطق كحرف الفاء مثلا يمكنُ أن يصاحبَ عملية نطقها خروج للرذاذ من الفم وهو ما يسبب له القرف
وقد حاول معهم أن يكفوا عن الحديث أثناء الطعام لكنهم استغربوا كلامه فاضطر إلى الأكل وحيدًا منذ حوالي خمسة أشهر!وأضافَ أنه يدركُ مشاعرهم ويعرفُ أنه يبالغُ كثيرًا في قلقه ويتطرفُ في أفكاره لكنه لا يستطيعُ منع نفسه من ذلك!.
وتتضحُ في هذه الحالة الأفكار الاجترارية التسلطية Obsessive Ruminations في صورة التفكير في أشياءَ لا معنى لها أو يكونُ مفرطًا بلا داعٍ، كما يتضحُ أيضًا وجود طقوس التهيؤ والتغسيل القهرية وكذلك الخوفُ من العدوى والحرص الزائد على النظافة إضافةً إلى البطء الوسواسي القهري Obsessional Slowness(وائل أبو هندي، 2003).
ولكن أليس هناك تفكيرٌ اجتراريٌّ -أيضًا- يرغبه الشخصُ ويسرفُ فيه مستمتعا ونسميه أحلام اليقظة، أليست الأخيرة في جزءٍ كبيرٍ منها تفكيرا اجتراريا، وكثيرا ما يشتكي لنا المرضى من الإسراف اللاإرادي فيها، وبشكلً يجعل بعضهم يتعثرُ في دراسته أو عمله أو غير ذلك؟ وأليس بعضهم يجد ذلك ممتعا؟ وأليس بعضهم يبدأ الاجترار راغبا فيه، ثم يفقد القدرة على وقفه بعد ذلك؟ ثم ما هي النقطة التي تفصل بين أحلام اليقظة التي تنتمي إلى الوسواس القهري والذي لا ينفصل المريض به عن الواقع، وتلك التي تنتمي إلى اضطراب الفصام والذي يحدثُ فيه ذلك الانفصال؟ لعلنا حاولنا نقاش ذلك من قبل على استشارات مجانين في إجاباتٍ مثل: الوسواس القهري وأحلام اليقظة!، وأيضًا أحلام اليقظة: بين الوسواس والفصام، وإجابة: بين الوسواس القهري والفصام !!
ولنأخذ أيضًا المثال التالي: ((المشكلة هي أني وقعت في بحر التمني لا بل غرقت فبه فأصبحت حياتي كلها تخيلات وتصورات فكل ما أريد أن أفعله أتخيله، وبالتالي فأنا أجد عندي فراغ لا يملؤه إلا ممارسة العادة السرية وغيرها من المعاصي ثم بعدها أفيق وأتوب إلى الله ثم أعود مرة أخرى إلى نفس القصة، وللعلم أنا إنسان أحب الله جدا وملتزم ولا أترك الفرائض وأواظب عليها ولكن صدقوني كلما حاولت أن أخرج من هذه الحالة أحس بالعجز عن ذلك، ولا أخفى عليكم أن مستواي الدراسي أصبحت لا أتحمل سوءه فقد وصلت إلى أقل وأسوأ مستوى دراسي في حياتي بل أظن في الدنيا كلها فبعد أن كنت من الأوائل ومفضل لدى الجميع ومقدّر في كل السنين ولا أقل عن 95% أصبحت تقديراتي جيد جدا ثم جيد ثم مقبول+ راسب في مادة ثم جيد ثم جيد وأنا الآن في بداية السنة النهائية، ولكم أن تتخيلوا أني أجلس على المكتب ب 10- 12 ساعة لكي أذاكر ولكن لا أقرأ ولا أذاكر كلمة واحدة، وإن حدث وذاكرت ذاكرتي لا تسعفني كما اعتدتها من قبل لقد كانت فولاذية.
بل أكثر من ذلك أصبح السرحان يتسلل إليَّ في الصلاة فأصبحت أؤديها ولا أركز في المعاني ولا في أي شيء وأحيانا أتقاعس عن أدائها، حتى الآن وأنا أكتب لكم الرسالة أتخيل أنكم استلمتموها وتقومون بقراءتها والآن أقول لكم في ماذا أسرح وماذا أتخيل مرة رجل أعمال يتدرج في النجاح طبعا دون عقبات وبكل سهولة ليصل أنه يتحكم ويصلح العالم بأمواله ومرة لاعب كرة شهير ومرة تلميذ في الكلية ولكن عبقري يقدره من حوله ويقدره أساتذته ويعرفون اسمه ومفضل لديهم، ومرة شاب ولكن له علاقات كثيرة بالجنس الآخر، ومرة إنسان زاني، ومرة رجل صالح يحبه الناس، ومرة أمتلك سيارة أو تليفون محمول حديث، ومرة طبيب جراح ناجح ومبدع إلى أن يحصل على نوبل وأي حاجة أريد أن أفعلها أتصورها ولكن للأسف الشديد أكتفي بذلك ولا أفعل شيء.
المهم إني ابعد عن المذاكرة على الرغم أني داخل الكلية بإرادتي وأحبها وأشعر بالمتعة حين أفهم وأدرس فيها، والمشكلة أن أملي كان أني أتعين في الكلية وطبعا كده ضاع أو أحصل على تقدير عام امتياز وده كمان ضاع لأن تقديري كان جيد أو مقبول وعشان أعمل ماجستير لازم أعمل دبلوم وده سوف يضيع السنين وأنتم تعلمون الوقت وقيمته والسن الذي تقدم، أنا دلوقتى بدور على حل قبل ما أتجنن أنا نفسي أكون إنسان طبيعي زي أصحابي ما فكرش غير في الكلية لأنها هي اللي في مصلحتي وأعيش الواقع وأبعد عن الوهم وأحاول أعوض اللى فاتني، وللعلم أني ترددت كثيرا فقد كتبت الرسالة هذه أكثر من مرة ولكن كنت أقول لنفسي أنت لست مريض ولكن هي كبوة واقطع الرسالة ولكن كبوة لمدة 6 سنوات لا أظن ذلك) إذن هل يمكنُ أن نقولَ أن هناكَ اجترارًا مفيدًا واجترارًا غير مفيد؟
أي أننا نقسمهُ حسبَ جدواه ومن وجهة نظر الشخص نفسه؟ أو من وجهة نظر طبيبه النفسي مثلاً؟ ونستطيعُ في هذه الحالة أن نعرف الاجترارَ الوسواسيَّ بأنهُ "طغيانٌ للتفكير الاجتراري فيما لا يرى صاحبهُ فائدةً من وراء التفكير فيه" وأظنُّ هذا التعريفَ أكثرُ قربًا من ما يحدثُ لمريض الوسواس القهري فهوَ رغم وعيه بلا جدوى تفكيره إلا أنهُ لا يستطيعُ وقفهُ أي أنهُ وعيٌّ مع وقف التنفيذ كما يسميه الدكتور الرخاوي (الرخاوي، 1979)، والذي يقولُ في وصفه لعملية التفكير عند مريض اضطراب الوسواس القهري، وبعد أن أشارَ إلى أن لعملية التفكير عمومًا وظائفُ أخرى غير وظيفةِ حل المشكلة التي عرف بعض علماء النفس التفكير بأنهُ عمليةٌ تؤدي إليها فقط،
يقول الرخاوي: "إلا أن للتفكير بعدًا تركيبيًّا أعمقَ، وهذا البعدُ ليسَ بالضرورةِ هوَ التفكيرُ الإبداعيُّ بشكله المنتج المتقدم (رغمَ أنهُ أقربُ ما يكونُ إليه)، ولكنهُ التفكيرُ التركيبيُّ الولافيُّ الأعمق الذي قد يُنتِجُ فنًّا، أو قد يُعَمِّقُ وعْيًا، أي أن التفكير ليس مجرد حل للمشاكل ولكنهُ أيضًا وأساسًا إثراءٌ للوجود، بمعنى أن نتاج التفكير ليس حلَّ مشكلةٍ أو تخطي عقبةٍ، أو العثور على علاقةٍ بين معطيين، ولكنهُ زيادةُ ترابطٍ وصنعُ علاقاتٍ لولبيةٍ ولافيةٍ متصاعدة... وفي حالة العصاب الوسواسي يتضخمُ استعمالُ التفكير بلا جدوى"، ويقدمُ الرخاوي بعد ذلك وصفًا بالحركة البطيئة للتسلسلِ التصاعدي الذي يحدثُ عند طغيان التفكير الاجتراري أو التكراري في مريض الوسواس القهري فيقول: -1- العقلُ في أن يزدادَ الإنسانُ عقلاَ( وينبهنا في الحاشية إلى أن الحيلولةَ والتقييد هما من معاني العقل في العربية). -2- يصل العقلُ المفرطُ إلى ما أسميتهُ التحذلق.(ويعلقُ هنا على هاتين الخطوتين بأنهما لا تزالان في مرحلة السواء، وإن كانتا تعتبران سماتٍ خاصةٍ لبعض الشخصيات بذاتها). -3- يزدادُ التحذلق حتى ينفصل التعقل عن المحتوى الأعمق من المعنى. -4- يزيحُ هذا التضخم التحذلقي من جواره كل ما عداه، فلا يبقى بعد قليلٍ إلا اللفظنة Verbalism. -5- إذا انغلقت دائرةُ الفكر، أو مظهرها السلوكي في الفعل أو الوجدان، دارت السيطرةُ العقليةُ (المفرغةُ من معناها وهدفها) حولَ نفسها وأصبحتْ عرضًا معطلاً هوَ التكرارُ القهري، لا يوقفهُ أن يدركَ صاحبهُ لا جدواه، وتؤدي هذه الدائرةُ المقفلةُ.
وظيفةَ التكرار المعطل الذي يؤدي بدوره معنيين متناقضين في ظاهرهما وإن اتفقا على عمقٍ معين: فالتكرارُ أولاً: يعني استمرارَ المحاولة، وكأن الفكرةَ إذ هيَ مفرغةٌ من معناها وفاعليتها، تكررُ نفسها بغية الاتصال بأصل غاية ظهورها، والتكرارُ في نفس الوقت: يعني فشلَ هذه المحاولة، إذ لو نجحت لتوقفَ التكرارُ وانطلقَ تسلسلُ الفكر."(الرخاوي ، 1979). إذن فهذا تحليلُ الرخاوي لمعنى الاجترار الوسواسي أو التفكير التكراري كما يسميه، وأما ما يلاحظهُ الطبيبُ النفسيُّ أثناءَ عمله مع مرضى الوسواس القهري فهوَ أن نوعية محتوى الأفكار الاجترارية ورد فعل المريض تجاهها مختلفةٌ من مريضٍ إلى مريض إلى الحد الذي يجعلُ الأمرَ أكبر من أن يستوعبهُ تفسيرٌ واحد:
-1- فبعضهم يكونُ محتوى التفكير الاجتراري نفسهُ هوَ المرفوض بمعنى أنهُ لا معنى له كمن يفكرُ في معنى ومغزى أن يكتبَ على ياقة القميص الجديد "يغسلُ قبل اللبس" وهل يعني ذلك أن يغسل قبل اللبس في أول مرةٍ فقط أم في كل مرة وهل يعنى ذلك أنه لن يستطيع لبسه إلا مبتلا؟؟ أو أن محتوى الأفكار الاجترارية يأخذُ شكلاً لا يليقُ بأمثالهم أن يفكروا به، كمن تدور أفكارها الاجترارية حول طعن أبنائها بالسكين أو خيانة زوجها أو ممارسة الجنس مع أخيها أو ابنها أو كيف يا ترى يكونُ شكل الله تعالى؟
-2- وبعضهم يكونُ اعتراضهُ لا على المحتوى في حد ذاته ولكن على عملية التكرار اللاإرادية نفسها لكنهم يرونَ الموضوعَ جديرًا بالتفكير فيه، ويحدثُ ذلك عادةً عندما يكونُ المحتوى متعلقًا بموضوعٍ هو من اهتمامات المريض الأساسية في حياته كالحلال والحرام مثلاً(وائل أبو هندي، 2003).
وهل نستطيع مثلا تصنيف التفكير الاجتراري إلى منسجم مع الأنا Egosyntonic ولا منسجم معها Egodystonic، بحيث نعتبر التفكير الاجتراري وسواسيا إذا كان غير منسجم مع الأنا، وفصاميا إذا كان منسجما مع الأنا؟؟ لكننا رغم ذلك، وبالرجوع إلى الحالتين المعروضتين في هذا المقال، وإلى ما تقود إليه الروابط المدمجة فيه، لا نستطيع بسهولة -كما يتضح- أن نحدِّدَ الخط الفاصل بين التفكير الاجتراري المنتمي للوسواس القهري، وذلك المنتمي للفصام، بالضبط مثلما يجد الطبيب النفسي نفسه حائرا في كثير من الأحيان مع مريضه، إذن فلا تصنيف التفكير الاجتراري إلى إرادي وغير إرادي ولا تصنيفه إلى ذي معنى أو غير ذي معنى أو مفيدٍ أو غير مفيد ولا إلى منسجمٍ أو لا منسجم مع الأنا كل هذه المحاولات التصنيفية قد تسعفُ المرء في حالة أو أكثر لكنها لا تصلح للتعميم، فدائما تظل خبراتنا الإنسانية أعمق وأشمل من أن نحيط بها، فهل من مشاركات من أصدقاء مجانين؟