top of page

من هو الطفل الطبيعي؟


من هو الطفل الطبيعي؟ قبل أن نبدأ شاركوني بفعالية خيالية صغيرة: أريد أن أطلب منكم أن تصغروا رويدا رويدا بالحجم، حتى تصبحوا بحجم طفل صغير تقريبا في الثانية من عمره. بعد هذا أريدكم أن تمشوا في الغرفة… سوف ترون العالم بالطريقة التي يراه بها طفل صغير. أقتربوا لتلك الطاولة هناك… سترونها كبيرة وضخمة، ولن تروا منها سوى سقفها السفلي ورجلاها. لن تعلموا اذا كان يوجد شيء على الطاولة، شيء ربما تبحثون عنه. كيف هو شعوركم؟ تخيلوا أنكم تحاولون صعود الدرج. جسمكم صغير وتوازنكم ضعيف، منذ فترة ليست بطويلة تعلمتم المشي، وكلما رفعتم رجلكم لصعود تلك الدرجة التي هي بنصف طولكم شعرتم بفقدان التوازن وخطر السقوط. كيف هو شعوركم؟

تخيلوا أنكم بحجمكم الصغير هذا تحتاجون دخول المرحاض. مقعد المرحاض يبدو لكم كبيرا وفيه حفرة كبيرة فيها ماء، حجمها أكبر من حجمكم لهذا من الممكن أن تسقطوا فيها… كيف هو شعوركم؟ تخيلوا أنفسكم الآن تقفون أمام البالغين بحجمهم الكبير، وكي تستطيعون رؤية وجههم عليكم أن ترفعوا رأسكم عاليا… سوف ترون البالغين بحجمهم الضخم وأصواتهم العالية يتحركون بسهولة ويقررون كل شيء يتعلق بكم… كيف هو شعوركم؟ تعرفتم في هذه الفعالية على بعض الأمور اليومية التي يعيشها الطفل الصغير، ونحن كبالغين لا ندرك حتى مدى صعوبتها عليهم. لكننا نتساءل بشكل دائم لماذا هم متطلبين وعدوانيين وعنيدين. في الحقيقة هم كذلك لأنهم ككائنات صغيرة وضعيفة في عالم كبير من صنع البالغين (عالم لا يتأقلم لحاجاتهم بل يطلب منهم أن يتأقلموا هم لحاجاته) يشعرون بأنهم في صراع للبقاء.

لهذا السبب العدوانية في الجيل المبكر ليست لهدف التدمير كعدوانية الشخص البالغ، بل هي وسيلة يستعملها الطفل كدفاع عن النفس أو كحفاظ على الحياة، لأنه ككائن صغير وضعيف لا حول له ولا قوة يشعر بالخوف والخطر، لكن ليس لديه القدرة على التعبير عنهم بأي طريقة أخرى.

أعتقد أننا حتى مع قدراتنا كبالغين، لو عشنا في “عالم مبني لعمالقة كبار” يحكمون العالم ولا نستطيع التعبير عن أنفسنا أمامهم، كنا سنشعر بالاحباط وسوف نكون متطلبين وعدوانيين وعنيدين. دونالد وينيكوت (1896-1971)، هو طبيب أطفال بريطاني ومحلل نفسي من ضمن أعماله تحليل العلاقة بين الوليد والأم، وشرح خبايا نفس الطفل في رحلة تطوره. في مقال إسمه “بعض الجوانب النفسية للجنوح لدى الأحداث” من سنة 1964، قال:

ما هو طفل طبيعي؟

هل هو فقط يأكل ويكبر ويبتسم بظرافة؟ لا، الطفل الطبيعي ليس كذلك. الطفل الطبيعي، الذي يثق بأمه وأبيه، هو طفل يسمح لنفسه أن يتحرر من كل الضوابط. مع الوقت هو يجرب قوته في التشويش والإخافة والإرهاق والتخريب وتخطيط المكائد والسلب. لكل الأمور التي تقود الإنسان البالغ للمحاكم (أو إلى مؤسسات العلاج النفسي) يوجد شبيه في الطفولة أو الطفولة المبكرة يحصل في بيت الطفل. اذا نجح البيت في الصمود أمام كل ما يقوم به الطفل لتشويش نظامه، ينتظم الطفل ويبدأ باللعب. لكن كي يحصل هذا، هنالك تجارب التشويش هذه التي من الضروري أن تحصل.” وما الذي يحصل عندما يرسب الأهل في هذا الإمتحان؟ يقول وينيكوت:

“الطفل الذي يفشل بيته في الصمود أمامه، يبحث عن “جدران” تحتويه في الخارج. الطفل المخرب يوسع دائرة بحثه عن بيئة تصمد أمامه وبدل أن يبحث عن هذا في بيته ينتقل للمجتمع أو المدرسة (مع فعالياته التخريبية)، وذلك كي يحصل على الثبات الذي يحتاجه كي يعيش مراحل تطوره المبكرة والضرورية جدا من أجل تطوره النفسي.”

ينيكوت يرى أن بداية التصرفات العدوانية والتخريبة هي أمر طبيعي لدى كل طفل، لانه يختبر فيها المجال الموسع للمشاعر الإنسانية ويتعلم بمساعدتها عن نفسه وعن الآخر أمامه. مثلا، إذا لم يختبر الطفل التسبب بالأذى كيف سيكتشف المشاعر المتعلقة بالشعور بالذنب، وكيف سيحصل على فرصة لرؤية نتيجة الأذى الذي تسبب به؟ هذه التجارب في الطفولة ضرورية جدا من جوانب عدة، من ضمنها التطور العاطفي والأخلاقي. وظيفة الأهل أمام تجاوز الطفل للحدود هي إحتواءه بالطريقة الصحيحة (مقال عن الاحتواء) . مجتمعنا الحاضر لا زال ينظر بعين ناقدة وغير متقبلة للأطفال، وهو غير متسامح أمام اختلافاتهم الشخصية وقدراتهم المختلفة. القاعدة بالنسبة ل “ما هو طفل طبيعي” ليست فقط متصلبة، بل أيضا خاطئة.

لنتعاطف مع أطفالنا، الخطأ ليس فيهم والذنب ليس ذنبهم. علينا أن نبدأ بالنظر لأنفسنا، وأن نبدأ بإدراك رغباتنا النرجسية الدفينة التي تجعلنا نضع ضغوطات جمة على أطفالنا تحرمهم من تميزهم وشخصيتهم ومواهبهم الخاصة.

الموضوعات المميزة
موضوعات أخري
علامات البحث
لا توجد علامات بعد.
من نحن
bottom of page