الذاكرة وصعوباتها لدى ذوي صعوبات التعلم
الذاكرة وصعوباتها لدى ذوي صعوبات التعلم لقد أصبحت مشكلة الذاكرة في النصف الثاني من القرن العشرين من اكثر مشكلات علم النفس العلمية، التي حظيت بالدراسة والاهتمام، وحققت تطوراً عظيماً، حيث تجري دراستها في فروع، ومجالات علمية عديدة بما في ذلك تلك العلوم التي تبدو وكأنها بعيدة عن علم النفس مثل تكنولوجيا الاتصالات، والحاسوب وباستخدام مداخل متنوعة، وقد تمخضت هذه الدراسات عن حجم هائل من الادبيات يقدر بثلث ما كتب وأنجز في ميادين علم النفس كلها. ويعود سبب ذلك إلى جملة أسباب من أهمها ما يلي: 1) إن تطور تقنيات الآلات الحاسبة الإلكترونية المرتبطة بنمذجة عمليات الذاكرة، كشف عن مدى تعقد هذه العمليات، فقد كان ينظر إلى عهد قريب إلى الذاكرة على أنها عملية انطباع واحتفاظ واسترجاع بسيط للآثار. أما الآن فقد تبين عدم كفاية ودقة هذه التصورات لذا اصبح الدارسون للذاكرة البشرية ينظرون إلى عمليات التذكر (الادخال) والاحتفاظ (التخزين) والاسترجاع (الاخراج) باعتبارها عمليات معقدة لمعالجة المعلومات والتي يتألف كل منها من عدد من المراحل، وتقترب من حيث طابعها من النشاط المعرفي، الشديد التعقيد والرفيع التنظيم، وهذا التغيير الجذري الذي طرأ على تصوراتنا للذاكرة أدى إلى دراسة بنائها على نحو أدق، وقدم تحليلاً أكثر تفصيلاً لآليات عملها. 2) السبب الثاني الكامن وراء تنشيط الاهتمام بدراسة الذاكرة يعود إلى الانجازات التي حققها التحليل البيولوجي لطبيعة الآثار التي تتركها التأثيرات المختلفة في الذاكرة، حيث سمحت الدراسات البيولوجية التي جرت في المستوى الجزيئي بالتوصل إلى سلسلة وقائع تشير إلى احتمال قيام الحمض الريبي النووي (RNA) بدور حاسم في عمليتي تسجيل وحفظ الآثار، إضافة إلى المعطيات التي تم التوصل إليها في الدراسات التي أجريت في المستوى العصبوني (النيروني) إذ تبين أن التنبيه الذي ينشأ في العصبون يتعرض لتغيرات متلاحقة مما يؤدي إلى تغير فاعلية الخلية العصبية كما يؤدي إلى انتشار التنبيه والاحتفاظ بأثره وفي الوقت نفسه إلى تكون الإشراط الخاص به. لقد اتاحت هذه الدراسات الدقيقة معرفة العلاقات المتبادلة بين الخلية العصبية والفراء العصبي وحملت معها معلومات جديدة قيمة حول آليات الاحتفاظ بالآثار في الذاكرة. كما أكدت وجود جهاز دماغي متخصص يقوم بوظيفة استقبال وتحليل المعلومات وباجراء مقارنة بين المعلومات الجديدة الواردة وبين المعلومات السابقة المخزونة وقد ساعدت هذه الدراسات على فهم الدور الذي تساهم به هذه العمليات العصبية في عمليات الذاكرة. مكانة الذاكرة في حياة الإنسان الذاكرة هي الخاصية الأكثر أهمية وعمومية للجهاز النفسي لدن الإنسان، التي تمكنه من تلقي التأثيرات الخارجية والحصول على المعلومات، وتجعله قادراً على معالجتها وترميزها وادخالها والاحتفاظ بها، واستخدامها في سلوكه المقبل كلما دعت الحاجة إليها. كما تضمن الذاكرة وحدة وكلية الشخصية. وفي ضوء ما تقدم يمكن القول بأن التعقد التدريجي للسلوك والارتقاء الدائم به يتحقق بفضل تراكم الخبرة الفردية والنوعية والاحتفاظ بهما لا بل أن تكون الخبرة أمراً غير ممكن فيما لو تلاشت صور العالم الخارجي واشارته التي تنشأ في الدماغ بدون أن تترك اثراً فيه ونظراً لأن سلوك الإنسان في كل لحظة من اللحظات، وفي أي موقف من المواقف التي يواجهها، تحدده الخبرة السابقة (الذاكرة) بانواعها المختلفة ومستوياتها المتعددة من خلال تآزرها مع التفكير واستخدامها لطرائقه وعملياته فإنها تحتل مكانة عظيمة في حياة الإنسان وهي العامل الحاسم في تقدمه وتطوره وفي استمرار وديمومة هذا التقدم لأن الإنسان بدون الذاكرة يبدو كما لو أنه (يولد من جديد في كل لحظة) علماً بان دور الذاكرة لا يقتصر على تسجيل وحفظ ما كان في الماضي فقط وإنما يتجلى دورها في كل فعل حيوي نود القيام به في الوقت الحاضرلأن الفعل وجريانه وتحقق أهدافه يتطلب بالضرورة الاحتفاظ بكل عنصر من عناصره لربط كل عنصر بما سبقه وبما سيأتي بعده وبدون مثل هذا الربط، وبعيداً عن الاحتفاظ بوحدة الفعل وبوحدة سلاسل الأفعال ما كان منها وما يجري وما سيكون فإن التعلم والنمو غير ممكنين. الذاكرة والتعلم إن مصطلح الذاكرة (MEMORY) يشير إلى الدوام النسبي لآثار الخبرة ومثل هذا الأمر دليل على حدوث التعلم لا بل شرط لابد منه لاستمرار عملية التعلم وارتقائها. ولهذا فإن الذاكرة والتعلم يتطلب كل منهما وجودالآخر، فبدون تراكم الخبرة ومعالجتها والاحتفاظ بها لا يمكن أن يكون هناك تعلم. وبدون التعلم يتوقف تدفق المعلومات عبر قنوات الاتصال المختلفة وتتحول الذاكرة عندئذ إلى ذاكرة (اجترارية) وتلك علامة مرضية خطيرة. فإذا كان التعلم يشير إلى حدوث تعديلات تطرأ على السلوك من جراء تأثير الخبرة السابقة فان الذاكرة هي عملية تثبيت هذه التعديلات وحفظها وابقائها جاهزة للاستخدام وهكذا يجمع عدد كبير من الدارسين المعاصرين للذاكرة والتعلم (Smirmow) سميرنوف 1966، (Norman) نورمان 1970، (Klatzky) كلاتسكي 1978، (Hofman) هوفمان 1982 على أن العوامل التي تؤثر في التذكر والاحتفاظ والاسترجاع هي نفسها التي تؤثر في التحصيل والاكتساب، كما أن الشروط التي تسهل التعلم هي نفسها التي تيسر الاحتفاظ وان مستويات التذكر والاسترجاع هي نفسها مستويات التعلم، من وجهة النظر المعرفية. إن ما ذكر يبرهن أن التعلم والذاكرة مصطلحان متداخلان وفي كثير من الأحيان متطابقان وان كل منهما يستخدم ليعبر عن المصطلح الآخر وليقاس بوساطته، وليدل عليه، ولهذا اصبحا مترادفين تقريباً - ولا سيما في مستوياتهما المتطورة - أو هما تعبيران مختلفان عن جهد متصل واحد، ووجهان لعملية واحدة هي عملية معالجة الاحساسات والادراكات، مروراً بالتصور فالتخيل فالتفكير وباللغة والذاكرة من البدء، وحتى إنجاز عملية المعالجة وتواصلها وما تتمخض عنه من نتاجات سواء أكانت صور (تصورات) ادراكية لأشياء أو حركات أو مواقف انفعالية أو مفاهيم أو قواعد أو مبادئ ونماذج... الخ. مستويات دراسة الذاكرة على الرغم من أن الذاكرة من بين المسائل الكبرى في عدة فروع عملية عريقة ومتطورة مثل: علم النفس، البيولوجيا، التربية، علم الاجتماع... الخ فإنه لا توجد حتى الآن نظرية علمية شاملة للذاكرة البشرية، وإنما يوجد تنوع كبير في النظريات وفي الأعمال التجريبية وفي الموديلات الافتراضية والتطبيقية والتي يعد الحاسوب (الكمبيوتر) إحدى هذه الموديلات التي ما تزال بعيدة للغاية - على الرغم من التقدم المذهل الذي حققته - عن أن تكون موديلاً مناسباً لذاكرة الإنسان، وقد أدى هذا التعدد في تناول موضوع الذاكرة إلى دراستها في عدة مستويات هي: 1) المستوى السيكولوجي. 2) المستوى البيولوجي: أ. المستوى العصبي الفيزيولوجي، ب. المستوى البيور كيمائي. 3) المستوى السبراتي - مدخل النظم. عمليات الذاكرة للذاكرة تعريفات عديدة ومختلفة منها ما يركز على الطبيعة العامة للذاكرة وعلى بعض مراحل عملها كما في تعريف (سوكولوف) للذاكرة من وجهة نظرية المعلومات (هي الاحتفاظ بمعلومات عن إشارة بعد أن يكون تأثير هذه الإشارة قد توقف) ومنها ما يهتم بخصوصية الذاكرة البشرية في مستوياتها الراقية كما جاء في تعريف (بتقليد) (هي ذاكرة المفاهيم والتعميمات والكلمات) ومنها ما يشير إلى الذاكرة من حيث قدرتها على الاحتفاظ بالآثار لفترة زمنية ما قد تكون هذه الفترة شديدة القصر وقد تطول قليلاً ثم قد تمتد لدقائق وساعات وأيام وسنوات وربما مدى الحياة. الذاكرة هي: (الذاكرة القصيرة الأمد، والذاكرة العملياتية، والذاكرة الطويلة الأمد) ومنها ما يركز على عمليات الذاكرة كما في تعريف (سميرنوف) تكمن الذاكرة في (التذكر والاحتفاظ) وفي التعرف والاسترجاع اللاحقين لما كان قد مر بخبرتنا السابقة) ونظراً لأن النسيان قد يصيب بعض أجزاء الخبرة أو كلها وفي أية مرحلة من مراحل عمل الذاكرة فإنه يمثل برأينا عملية خاصة لكنها تؤدي وظائف مغايرة للعمليات الأخرى فهي تارة تعرقلها وتعطلها وتارة تسهل وتيسر لها فرصاً أفضل للعمل وهكذا... وعمليات الذاكرة مؤلفة من: أ. التذكر، ب. الاحتفاظ، ج. التعرف، د. الاسترجاع، هـ. النسيان. التذكر عملية التذكر هي سلسلة الجهود الهادفة وجملة المعالجات التي يقوم بها الشخص المتذكر منذ لحظة انتهاء مهمة الإدراك وربما قبل ذلك بقصد إعداد موضوع ما لإدخاله بصورة تدريجية إلى الذاكرة الطويلة الأمد والاحتفاظ به من أجل استرجاعه المقبل عن طريق ترميزه(1) بواسطة منظومات رمزية مختلفة ومتعددة المعايير.
ويعد التجميع والتوحيد للانطباعات والآثار في صور مركبة سواء في مرحلة الإدراك أو في مرحلة التسجيل مجرد طور ابتدائي من عملية التذكر. لكن سرعان ما تتحول أو تترجم هذه الصور والمركبات إلى رموز ليتم ادخالها أو ادراجها في منظومة من العلاقات المتعددة المعايير. وبهذا الترميز يتحقق الانتقال من الذاكرة المؤقتة والقصيرة الأمد إلى الذاكرة الدائمة أو شبه الدائمة والطويلة الأمد. وهكذا يعد الترميز من أهم الخصائص التي تميز الذاكرة البشرية الكلامية المنطقية القائمة على التصنيف والتعميم والتجريد... ويتضح دور الترميز بصورة خاصة عند دراسة تذكر المقاطع أو الكمالات التي لا معنى لها حيث تخفق الجهود غالباً في إيجاد لغة رمزية تترجم إليها مما يؤدي إلى صعوبة ادخالها إلى مستودع الذاكرة وفي حال تذكرها فإن بقاءها هناك يكون لفترة قصيرة وسرعان ما تتعرض للنسيان والتلاشي الكامل لآثارها. إن معرفتنا للعالم الخارجي أو البيئة المحيطة بنا ليست معرفة مباشرة وإنما معرفة رمزية غير مباشرة. فالمثيرات وشتى أنواع المؤثرات التي نتلقاها ولا نستطيع ترميزها لا يمكن أن تشكل جزءاً من خبرتنا لأنه من الصعب إن لم يكن من المستحيل ادخالها أو تذكرها احياناً بسبب عجزنا عن معالجتها ونقلها إلى لغة رمزية أو إلى مدرجات أو مستويات رمزية مطردة التجريد والتعميم. وعملية الترميز التي تؤلف المضمون الأساسي لعملية التذكر قد تجري بصورة لاإرادية وقد تتحقق بطريقة مقصودة وبنية وعزم على بلوغ غرض التذكر. وبهذا الصدد نجد من المناسب التعرض للتذكر اللاارادي والارادي والعلاقة بينهما. أ. التذكر اللا ارادي: هو تذكر موضوع أو موضوعات ما دون أن تكون هدفاً مباشراً للنشاط أو السلوك ويتم التوصل إلى هذا النوع من التذكر من خلال ارتباط موضوعه بموضوعات النشاط الارادي المقصود. حيث لا يكون المقصود من النشاط الارادي الواعي المنظم بلوغ أغراض تذكرية وإنما يكون الهدف عندئذ تحقيق أغراض عملية ومعرفية، ولهذا يعد التذكر اللا ارادي أحد نتاجات النشاط الهادف، ويشغل حيزاً كبيراً وهاماً في حياة الإنسان ويكون الشكل الرئيسي والوحيد للتذكر في مراحل الطفولة الأولى لكنه يتراجع مع النمو ليفسح المجال للتذكر الارادي في المراحل النمائية اللاحقة مع أنه يظل ذا أهمية بالغة في مختلف المراحل العمرية.
التذكر الارادي هو نتاج الأفعال التذكرية الخاصة أي ثمرة لتلك الأفعال التي يكمن هدفها الأساسي في التذكر وفي هذا تأكيد على أن الشرط الأهم في التذكر الارادي يعود إلى التحديد الدقيق لمسألة التذكر فقد كشفت دراسات عديدة (سميرنوف 1966، لاودس 1972) عن أن اختلاف الأهداف التذكرية يؤثر في جريان عملية التذكر نفسها وفي انتقاء الأساليب المستخدمة وفي النتائج التي يتم التوصل إليها. وإن استخدام أساليب عقلانية في التذكر الارادي هو أحد الشروط الهامة التي تضمن مردودية عالية له. ومن بين الأساليب العقلانية المنطقية ذات الأهمية الخاصة في التذكر الارادي نشير إلى أسلوب وضع مخطط للمادة التي يجب أن تحفظ وتختزن. ويشتمل المخطط التذكير بصورة عامة على خطوات ثلاث هي: 1) تجزئة المادة إلى العناصر والاجزاء التي يتألف منها. 2) إعطاء عنوان لكل جزء أو تمييز نقاط استناد فيه بحيث تؤلف رموزاً لمضمونه. 3) جمع وتوحيد الاجزاء انطلاقاً من العناوين أو نقاط الارتكاز. لقد ساعدت الدراسات والبحوث في مجال سيكولوجية الذاكرة وبخاصة فيما يتعلق بعلاقة الذاكرة بالعمليات المعرفية الأخرى ولا سيما التفكير على إثبات حقيقة وجود علاقة وثيقة بين الذاكرة والتفكير تمثلت في قول أحدهم (نقصد بالتذكر) التفكير بأمر ما كان في خبراتنا السابقة لكننا لم نفكر فيه قبل هذه اللحظة بعبارة أخرى بعد التفكير وسيلة أو أداة للتذكر أي أن عملية التذكر تتشكل وتتكون على قاعدة عمليات التفكير وبالتالي تتأخر عنها مرحلة واحدة، أما الفعل التذكري فيشتمل على مجموعة اطوار أو عمليات هي: 1) التوجيه في المادة ككل أو الفهم العام لها. 2) تقسيم المادة إلى مجموعات من العناصر. 3) تحديد العلاقات بين العناصر في داخل كل مجموعة. 4) تحديد العلاقات بين المجموعات. التذكر والتكرار يلعب التكرار دوراً هاماً في عملية التذكر، وهو حلقة ضرورية في كل عملية تعلمية، وأمر لابد منه لاستكمال مهمة الاستيعاب الشامل والمتعدد المستويات للمواد الدراسية، لكن على الرغم من لزوم التكرار فإن التذكر لا يتوقف على عدد التكرارات قدر ارتباطه بالتنظيم السليم لها. فتنظيم التكرارات لا يقل أهمية عن التكرار نفسه، إذ لا يجوز على سبيل المثال البدء بتكرار المادة بعد نسيان مقدار قليل أو كثير منها كما لا يجوز تكرارها قبل فهمها إلا أن التكرار يكون ذا تأثير إيجابي عندما يكون عقلانياً وفعالاً ولعل من أحسن أشكال التكرار هو التكرار الذي يعتمد على ادخال المادة الدراسية بصورة متقنة في النشاط أو التعلم المقبل. لقد بينت الأعمال التجريبية أن المادة الدراسية التي سبق تعلمها عندما تدخل في منظومة جديدة من المسائل على نحو تكون فيه كل خطوة أو مادة سابقة ضرورية للخطوة أو المادة التالية لها وعندئذ فإن التكرار لأي مادة يتم في كل مرة في سياق جديد وفي علاقات جديدة وفي ظل مثل هذه الشروط للتكرار فإن المعلومات المتكررة يتم تذكرها جيداً ويعاد فهمها من جديد وبالتالي يؤدي التكرار إلى التثبيت والتجديد وإعادة البناء. ويمكن القول بصورة عامة أن المرور المتكرر للمعلومات في الذاكرة ولا سيما في القصيرة المدى يقوم بوظيفتين. 1) إحياء المعلومات المحفوظة في الذاكرة القصيرة المدى لتجنب نسيانها. 2) نقل المعلومات إلى الذاكرة الطويلة الأمد مما يؤدي إلى رسوخ آثار هذه الذاكرة. ينظر بعض العلماء إلى التكرار ككلام داخلي أو كلام غير منطوق وهذا ما يشير إليه (سبيرلنغ Sperling 1967) حيث لاحظ المفحوصين أثناء عمليات التذكر يلفظون الأحرف أو الكلمات (سراً) وان الخطأ في اللفظ أو النطق يقود إلى أخطاء في التذكر، لكن هذا النوع من التكرار لا ينطبق إلا على الترميز السمعي في الذاكرة القصيرة المدى.
أما التكرار الذي يقود إلى نقل العناصر من الذاكرة القصيرة المدى إلى الذاكرة الطويلة المدى وإلى رسوخ آثارها فقد تم البرهان عليه في التجارب التي قام بها كل من (راندوس Rundus 1971)، (اتكنسون Atkinson 1970)، ففي إحدى التجارب الخاصة بالاسترجاع الحر عرضت على المفحوصين قائمة كلمات بمعدل كلمة كل خمس ثوان حيث كان على المفحوص أن يتذكر هذه القائمة مكرراً بعض الكلمات جهرياً خلال الخمس ثوان الفاصلة بين كل كلمة وأخرى المفحوص لم يرغم على تكرار كلمات محددة وإنما تركت له حرية اختيار الكلمات التي يود تكرارها وقد تبين أن هناك علاقة بين إمكانية استرجاع هذه الكلمات المنتقاة وبين عدد مرات تكرارها بصوت جهري. لكن (راندوس) يعلق على هذه النتائج قائلاً إن التكرار ليس سبباً كافياً للتذكر الأفضل كما أن التكرار لا يقود حتماً إلى انتقال المعلومات إلى الذاكرة الطويلة المدى. وقد تم التدليل على صحة هذا القول من خلال النتائج التي توصل إليها كل من (كريك Craik 1973) و(ودورد Wodword 1973) وملخصها أن عدد التكرارات لعنصر ما ليس له تأثير إيجابي دائم على الاسترجاع المقبل لهذا العنصر. الذكاء والاحتفاظ إن الدراسات التي أجريت لبيان العلاقة بين الاحتفاظ والكفاءة العقلية كشفت عن أن أصحاب المعدلات الأعلى في الذكاء هم اقدر على التعلم ويحتفظون بمقدار اكبر مما كانوا قد تعلموه من أصحاب المعدلات المتوسطة في الذكاء والأقل قدرة على التعلم والأبطأ فيه، وفي كل المواد الدراسية سواءا كانت فكرية مجردة أم ذات طبيعة ادراكية على شكل صور وحركات أو كانت سلاسل أرقام أو كلمات... الخ. بعبارة أخرى هناك علاقة عكسية بين القدرة على الاحتفاظ والنسيان وسبب ذلك يعود إلى أن أصحاب القدرات العقلية العالية اقدر على الفهم والاستيعاب وهم ميالون إلى أن يكونوا اكثر توسعاً في فاعلياتهم العقلية واهتماماتهم المعرفية ولذلك يتعلمون الكثير من الأمور التي يتعلق بعضها بما يسهل التعلم ويزيد في الاحتفاظ. قام أحد العلماء بدراسة عن العلاقة بين الذكاء والاحتفاظ في مقرر الكيمياء في المدرسة الثانوية حيث أخذ (80 طالباً) اختبرهم في بداية العام الدراسي وفي نهايته ليقيس الإنجاز وبعد عام أجرى لهم اختباراً آخراً ليقيس مقدار الاحتفاظ. فوجد ترابطاً قدره (0.51) بين الإنجاز والذكاء كما وجد ترابطاً بين الإنجاز (التعلم) والاحتفاظ قدره (0.70) مما يدل على وجود ارتباط عالٍ نسبياً بين الكمية المتعلمة والكمية المحتفظ بها. وبهذا الصدد نشير إلى أن عدداً من الباحثين يرون أن العلاقة الوثيقة بين الذكاء والاحتفاظ تعود إلى سببين هما: 1) كلما كان المتعلمون اكثر نمواّ وذكاء وخبرة فانهم يتعلمون بصورة أسرع ويحتفظون بقدر أكبر لان التعلم والاحتفاظ هما مظهران من مظاهر الذكاء وان كلاً منهما سبب ونتيجة للآخر. 2) إننا في التعلم والاحتفاظ لا نتعامل مع شيئين مختلفين وإنما مع جانبين لشيء واحد، وبصورة عامة فإن الذكي يتعلم بسرعة وينسى ببطء ويحتفظ لمدة أطول. نظم الذاكرة تشير الدراسات الحديثة في مجال سيكولوجية الذاكرة إلى وجود أنماط متعددة أو نظم مختلفة للذاكرة. لأن استرجاع المعلومات بعد فترات زمنية قصيرة جداً يختلف اختلافاً واضحاً من حيث الكم والكيف عن استرجاع المعلومات بعد فترات زمنية أطول. لذا يميز الباحثون بين أنواع من الذاكرة: أ. الذاكرة القصيرة المدى. ب. الذاكرة الطويلة المدى (ميللر Miller 1956 وماندلر Mandler 1967) ومنهم من يشير (مثل نورمان Norman 1974 وايليس Elliset 1979) وآخرون إلى ثلاثة أنماط: المسجل (المخزن) الحي المباشر، الذاكرة القصيرة المدى، الذاكرة الطويلة المدى ويشير آخرون إلى احتمال وجود أنواع أخرى للذاكرة لكن خصائصها غير معروفة حتى الآن لعلماء النفس التجريبيين. المسجل (المخزن) المباشر للمعلومات الحسية إن هذا النظام من نظم الذاكرة يحتفظ بالمعلومات التي تتلقاها أعضاء الحواس. أما مدة الاحتفاظ بهذه المعلومات فقصيرة جداً تتراوح بين (0.1 - 0.5) من الثانية ومن الأمثلة على ذلك نذكر ما يلي: أ. إغلق عينيك ثم افتحها للحظة ثم اغلقها وهكذا فإنك تلاحظ كيف أن الأشياء التي رأيتها تظل واضحة لبعض الوقت ومن ثم تتلاشى ببطء. ب. إصغ إلى مجموعة أصوات ولتكن فرقعة اصابعك أو صفير صدرك مثلاً ثم لاحظ كيف تتلاشى دقة الصورة الصوتية من وعيك. ــ الذاكرة القصيرة المدى وهي نظام الذاكرة الذي يعتمد عليه في سياق حل المسائل أو في أثناء القيام بأية مهمة مؤلفة من حلقات متتابعة، ويتجلى عمل هذا النظام بوضوح عندما يقوم الطالب بتسجيل محاضرة أثناء إلقاء المحاضر لها، أو عند قيام التلميذ باجراء عملية حسابية أو في أثناء صياغته لفقرات معينة. بعبارة أخرى عندما يتعلق الأمر بالاحتفاظ بنتائج بينية (لفترة مؤقتة) يتم التوصل إليها في أثناء حل مسألة ما وتعد ضرورية لإكمال حل هذه المسألة.
على سبيل المثال: عندما يطلب منك استرجاع فوري لمادة كنت قد قرأتها أو لرقم كنت قد سمعته للتو أو بعد فترة وجيزة من عرضها فإن عليك عندئذ أن تعتمد في استرجاعك على نظام للذاكرة يطلق عليه (الذاكرة القصيرة المدى) وهكذا يعد الاحتفاظ برقم هاتف جديد، أو اسم شارع جديد تسير فيه أو تتجه إليه أو مقطع من جملة وصلت إلى مسامعك منذ برهة، أو مقاطع صوتية من لحن موسيقي توقف فجأة، أو عدد من الكلمات التي فرغت من قراءتها منذ قليل. الخ. إن كل ما ذكر أمثلة للذاكرة القصيرة المدى. شرط ألا يتجاوز حجم أي من المواد المذكورة (±7) عناصر (ميللر Miller 1956) وهذا الرقم (7+2 أو 7-2) هو الحجم المتوسط للذاكرة الإنسانية القصيرة المدى وهذا معناه أن الشخص العادي يستطيع أن يختزن في ذاكرته القصيرة المدى ما بين 5-9 عناصر أو بنود وهذه العناصر أو البنود يمكن أن تكون اعداداً أو حروفاً أو مقاطع صماء أو كلمات. وإن سعة الذاكرة القصيرة المدى تظل هي هي، بغض النظر عن المادة ذاتها. أي أن هذه العناصر يمكن أن تكون حروفاً أو كلمات علماً بأن كل كلمة مؤلفة من عدد من الحروف، إن هذه الوضعية تشير إلى أن ما تختزنه الذاكرة القصيرة المدى هو وحدات ذات معنى من المعلومات وليست الجزئيات التي تتألف منها هذه الوحدات. وإن فترة الاحتفاظ بالمعلومات في الذاكرة القصيرة المدى لا تتعدى عشرات الثواني وفي احسن الأحوال بضعة دقائق. في ضوء ما تقدم يبدو واضحاً أن استراتيجية معالجة المعلومات التي تتبعها الذاكرة القصيرة المدى تقوم على طريقتين هما: 1) طريقة التكرار حيث يرى بعض الباحثين أن عملية التكرار ملائمة للنطق غير الصوتي (عقلياً) لأن كل اعادة تؤدي وظيفة الادخال الأول للعنصر نفسه إلى الذاكرة القصيرة المدى. وهذا التكرار يبقي المادة في هذا المخزن (مخزن الذاكرة القصيرة المدى) ككل ويحتفظ بها لفترة قصيرة. وهناك وظيفة أخرى للتكرار تتصل بالتهيئة والإعداد لانتقال المعلومات من الذاكرة القصيرة المدى إلى الذاكرة الطويلة المدى. وبهذا الصدد نشير إلى ما ذكره كل من (Shiffrin and Atkinson 1968) ( كلما تكررت المعلومات عدداً اكبر من المرات كلما تم الاحتفاظ بها في الذاكرة القصيرة المدى لفترة أطول، وكلما كان هناك احتمال اكبر لاسترجاعها في المستقبل) ويعني هذا أن عملية التكرار تساعد على ترسيخ المعلومات بصورة عامة وفي أي نظام من نظم الذاكرة بما في ذلك الذاكرة القصيرة المدى.
2) طريقة التصوير السمعي هناك طريقة أخرى تعتمد عليها الذاكرة القصيرة المدى في الاحتفاظ بالمعلومات وهي طريقة التصوير السمعي. فحتى لو دخلت المعلومات إلى الذاكرة القصيرة المدى على شكل صور بصرية أو لمسية أو سمعية فإنها تترجم أو تحول إلى صور سمعية إذا كانت قابلة أو سهلة التحول إلى ذلك. ولعل السبب يكمن في أن كل خبرات الإنسان تتحول بطريقة أوتوماتيكية إلى كلام. والكلام سر بقاء الخبرة محفوظة إلى (الأبد) وتجدر الإشارة إلى أن العلماء وجدوا بعض الوقائع التي تدعم هذا المنحى في عمل الذاكرة القصيرة المدى، واقعة (الخلط) أو التداخل بين العناصر المتشابهة من حيث الصوت اكثر من الخلط أو التداخل بين الصور الأخرى على اختلافها (Conrad 1964).
أخيراً: على الرغم من أن مصطلح الذاكرة القصيرة المدى يشير إلى انه في اصل هذا النظام من نظم الذاكرة اتخذت الفترة الزمنية التي يستطيع هذا النظام الاحتفاظ فيها بالمعلومات الواردة إليه اساساً لتمييزه. الذاكرة الطويلة المدى هناك فرق جوهري بين استرجاع الأحداث التي وقعت للتو، وبين استرجاع أحداث الماضي البعيد. فالنوع الأول من الأحداث نسترجعه بسهولة وبصورة مباشرة، أما النوع الثاني فهو استرجاع معقد ويتم بصورة بطيئة وباستخدام وسائط مختلفة، فالاحداث التي وقعت للتو ما تزال في الوعي، إنها لم تغادره بعد، بينما استخراج المادة القديمة من الذاكرة الطويلة المدى يتطلب وقتاً وجهداً من بين ركام المعلومات الهائل ويتم بصعوبة بالغة أحياناً. ولهذا يمكن القول أن الذاكرة القصيرة المدى مباشرة وفورية بينما الذاكرة الطويلة المدى هي اكثر نظم الذاكرة أهمية واكثرها تعقيداً وذات سعة كبيرة جداً وبعضهم يقول ذات سعة غير محدودة.
إن ما يتم الاحتفاظ به في الذاكرة الطويلة المدى هو كل ما نعرفه عن العالم من حولنا، إذ بفضل المواد المحفوظة في الذاكرة نستطيع استرجاع حوادث الماضي وحل المسائل المختلفة والتعرف على الصور... الخ.
أو بعبارة أخرى نتمكن من التفكير وبهذا الصدد أشار كل من (بياجيه وانهيلدر) في كتابهما المشترك (الذاكرة والذكاء 1968) إلى أن الذاكرة - ويقصد هنا الذاكرة الطويلة المدى - تخضع لقوانين التفكير وانها تعمل وفق هذه القوانين وهي بدورها تساند التفكير. ذلك لأن كل المعلومات والمهارات الموجودة في أساس القدرات العقلية لدى الإنسان محفوظة في هذه الذاكرة. إن المعلومات تدخل وتحفظ في الذاكرة الطويلة المدى وفق قواعد محددة إملائية، منطقية، نحوية، ايقاعية... الخ وحسب رأي (بنفليد Penfield 1959) إن كل ما يحتفظ به الإنسان في وقت ما في الذاكرة الطويلة المدى يظل فيها لمدة طويلة جداً. وفي هذه الحالة فإن الذاكرة الطويلة تحتوي على قدر هائل من المعلومات. وربما كان التنظيم والترتيب وفق معايير متعددة الذي تخضع له المعلومات المختزنة، هو الضمانة لبقاء المعلومات بصورة دائمة فيها لأن الترتيب يجعل الوحدات تترابط وتتماسك على أساس معناها المشترك وهو الذي يتيح لنا إمكانية استخراج المعلومات الضرورية والتي نحتاجها من الذاكرة الطويلة المدى خلال وقت قصير بينما ننفق جهوداً مضنية ونمضي وقتاً طويلاً وبلا جدوى إذا كانت المعلومات غير مرتبة وغير منظمة. وانطلاقاً مما تقدم فإن الموديلات المعاصرة للذاكرة الطويلة المدى معقدة جداً وسبب ذلك يعود إلى تعقيدات الذاكرة نفسها، إضافة إلى اعتبارات خاصة نذكر منها ما يلي: 1) إن استخدام المعلومات المحفوظة في الذاكرة الطويلة المدى مرتبط بحل المسائل وبالاستنتاج المنطقي، وبالاجابة عن الأسئلة، وباستدعاء وقائع وأحداث وأشياء كثيرة.
2) تشتمل الذاكرة الطويلة المدى على معلومات متنوعة إلى اقصى حدود التنوع.
3) الذاكرة الطويلة المدى ذات طابع معنوي وذات ترتيب رفيع المستوى وبعيد عن العشوائية. وفي هذا الصدد يرى العلماء وجود عدة أنواع للذاكرة الطويلة المدى، لكن بعضاً منهم يشير إلى وجود نوعين (تولفينك Tulving 1972) حيث ميز بين الذاكرة المعنوية وذاكرة الحوادث، إذ لكل منهما مخزن طويل المدى للمعلومات لكنهما يختلفان من زاوية طابع المعلومات التي يحتفظ بها كل منهما. ففي الذاكرة المعنوية يحتفظ مثلاً بكل ما نحتاجه من أجل الكلام حيث لا يشتمل هذا النوع على الكلمات والتراكيب اللغوية والرموز التي تدل عليها وعلى الموضوعات ومعانيها (الأشياء وأسماءها) فقط، وإنما تشمل كذلك القواعد التي تستخدم وفقها حيث تحفظ فيها ايضاً تلك المواد مثل قواعد النحو، الصيغ الكيميائية، الخصائص الفيزيائية، قواعد الجمع والضرب، ومعرفة أن الخريف يأتي بعد الصيف... الخ. بعبارة أخرى تحتوي الذاكرة المعنوية على جميع تلك الحقائق التي لا ترتبط بأوقات معينة أو بمكان معين وإنما تمثل حقائق عامة.
أما ذاكرة الأحداث فتشتمل على المعلومات والأحداث التي رمزت في وقت محدد والكيفية التي كانت عليها عند إدراكها وفي أثناء تعلمها وتذكرها. وهذا النوع من الذاكرة الطويلة المدى يحتفظ بأنواع مختلفة من البيانات الخاصة بسير الأشخاص والظواهر والأشياء... لقد سافرت إلى فرنسا في شتاء 1981، تخرج أخي من الجامعة 1978... الخ كما تشتمل على المعلومات التي ترتبط بجريان الحياة اليومية وفق سياق معين.
إن المعلومات المحفوظة في كلا نوعي الذاكرة الطويلة المدى (الذاكرة المعنوية وذاكرة الأحداث) تطرأ عليها تغيرات هامة أثناء عملية الاحتفاظ بها حيث يعاد تشكيلها وصياغتها أحياناً، وتصبح بعيدة المنال بالنسبة للاستخراج احياناً أخرى. وهنا نشير إلى احتمال تعرض ذاكرة الأحداث للنسيان اكثر من الذاكرة المعنوية. وإلى أن الذاكرة الطويلة المدى تقوم بمعالجة المعلومات المخزونة واجراء بعض التغيرات أو التعديلات عليها بحيث لا تتطابق مخرجاتها (استرجاعها) مع مدخلاتها (التذكر).
أخيراً وفي ضوء كل ما تقدم يمكن وصف الذاكرة الطويلة المدى بأنها عملية الاحتفاظ بالموضوعات التي تم ادخالها إلى الذاكرة من قبل، لمدة طويلة. وتكمن المهمة الرئيسة لها في الاحتفاظ بما هو ضروري في المستقبل. أي أنها ترتبط بتنظيم السلوك خلال فترات زمنية مديدة. ويتطلب ذلك بالضرورة أن تعمل وفق مبدأ التوقع أو الاحتمال حيث تكتسب الخصائص الاحتمالية للمعلومات أو الاشارات المدخلة إليها أهمية فائقة وهذا يعني أن العامل الهام في التذكر والاحتفاظ والاسترجاع هو المضمون المعلوماتي للاشارات والتقارب المعنوي فيما بينها. وبفضل هذه الخصائص تصبح الذاكرة الطويلة المدى نظاماً قادراً على تخزين المعلومات وفق طرائق عقلية عالية التنظيم، وعلى الاحتفاظ بكمية غير محدودة منها ولفترة زمنية غير محدودة أيضا. النموذج الشبكي للذاكرة الطويلة المدى منذ أواخر الستينات من القرن الماضي أصبحت الذاكرة - كما مرّ سابقاً - مادة لبحوث ودراسات كثيرة تمخضت عن تصورات متباينة لآليات عمل الذاكرة ووظائفها ومحتوياتها وقد تجسدت هذه التصورات في موديلات ونماذج عديدة نذكر منها النموذج الشبكي المعنوي الذي أخذ صيغاً مختلفة. حيث يصف هذا النموذج الذاكرة المعنوية الطويلة المدى بأنها شبكة شديدة الاتساع تحتوي على قدر هائل من المفاهيم المتصلة والمتشابكة فيما بينها (براون وماك نيل 1966Neill, Brown) والتي تجعل من هذه المفاهيم حزماً متراطبة وهذا الترابط ليس متماثلاً وغير بسيط، إنه متنوع ويجري في مستويات متفاوتة التقعيد ويمثل هذا الاتجاه الربطي الجديد في دراسة الذاكرة (اندرسن وباور 1973).
إن النموذج الشبكي للذاكرة المعنوية الطويلة المدى يقوم على فكرة رئيسة مفادها أن الشبكات الترابطية تمتلك انتظاماً وتماسكاً إلى أقصى حد ويتوقع من الموضوعات المتقاربة من الناحية المعنوية أن تترابط بقوة في شبكات الذاكرة الطويلة المدى. وبهذا المعنى فإن الذاكرة الطويلة المدى تغاير في عملها وطريقة تنظيمها طريقة تنظيم المعاجم والقواميس. حيث لا توضع الكلمات أو المفردات ذات المعنى الواحد أو المتقارب في نظام بائي معين. ولهذا فإن طريقة المعاجم والقواميس قليلة النفع عند تحديد العلاقات بين المفاهيم. التمييز بين الذاكرة القصيرة المدى والذاكرة الطويلة المدى تختلف الذاكرة القصيرة المدى عن الذاكرة الطويلة المدى في نواح عديدة نذكر أهمها فيما يلي: 1) الذاكرة القصيرة المدى تحتفظ بالمعلومات لمدة قصيرة بينما تحتفظ الذاكرة الطويلة المدى لمدة طويلة بها.
2) الذاكرة القصيرة المدى سعتها محدودة لا تتعدى (±7 وحدات) بينما سعة الذاكرة الطويلة المدى غير محدودة.
3) المعلومات أثناء وجودها في مخزن الذاكرة الطويلة المدى أقل تأثراً بالمدخلات الجديدة من المعلومات المحفوظة في الذاكرة القصيرة المدى، نظراً للتباين الشديد في طريقة معالجة المعلومات من قبل كل منهما.
4) نوع التداخل الذي يسبب النسيان في حالة الذاكرة القصيرة المدى يختلف عن النوع الذي يسبب النسيان في حالة الذاكرة الطويلة المدى. فالأشياء التي تتداخل في الذاكرة القصيرة المدى هي تلك التي تتشابه من الناحية الصوتية، أما التداخل في الذاكرة الطويلة المدى فناجم غالباً عن التشابه القائم على المعنى.
5) الذاكرة القصيرة المدى تسترجع المعلومات متبعة طريقة الفحص المتتابع بينما تسترجع الذاكرة الطويلة المدى مستخدمة طريقة التقابل.
6) يختلف نمطا الذاكرة (القصيرة والطويلة) فيما بينهما من حيث الآليات التي تعمل في حالة كل منهما. وقد قدمت معطيات فيزيولوجية وعصبية لتأكيد هذه الفرضية ففي عام (1959) وصفت (برندا ميلنر Brenda Milner) عدداً من الظواهر التي لاحظتها لدى بعض الأشخاص بعد اصابتهم بتلف في منطقة من المخ تدعى (قرن آمون) وجملة هذه الظواهر المرضية أصبح يطلق عليها (لزمة ميلنر) فالمصاب بلزمة ميلنر غير قادر على استرجاع المواد الجديدة التي تعلمها منذ وقت قصير بينما يظل قادراً على استرجاع المواد والمعلومات التي كان قد اكتسبها في الماضي البعيد أو قبل تلف هذا الجزء من الدماغ.
على سبيل المثال بوسع المصاب استدعاء المعلومات التي تعرض عليه مباشرة، وبوسعه الاحتفاظ بها لبضعة دقائق إذا ما أتيحت له الفرصة لاعادتها المرة تلو الأخرى وبدون انقطاع. وهذه الوقائع تشير إلى أن المصاب بلزمة ميلنر يمتلك ذاكرة طويلة المدى وكذلك ذاكرة قصيرة المدى لكنها تؤكد من جهة أخرى احتمال اصابة وتعطل (الحلقة الواصلة) بين الذاكرة القصيرة والطويلة مما يحول دون انتقال المعلومات من الذاكرة القصيرة إلى الذاكرة الطويلة.